وقدم ربيع الثورات العربية محملا بعواصف التغيير، وجعجعة الآليات العسكرية، وبالصراخ والعويل، وبزخم الجنازات المتواصلة طوابيرها، وبالكرامة أخيرا. قدم ذات يوم من أيام شهر يناير 2011 المبارك، وتوالت الأيام والأشهر، وهذا "التسونامي" الثوري، لا يزداد إلا امتداد وتفشيا كبقعة زيت، في الجغرافية العربية، من رقعة لأخرى، ومن بلد لآخر، ومن "زنݣة لزنݣة" كما أصبح شائعا. ولما تزال عاصفة التغيير جارية أوادمها الثائرة، والغاضبة، على قدم وساق، لغاية تحرير هذه الأسطر.
لقد كان يوم حدثت لي هذه الحكاية العجيبة، وهذا اللقاء الغريب، تناسب حادثته مع ليلة القدر، من شهر رمضان المبارك لهذه السنة. خرجت من بيتي في منتصف الليل، وتوجهت للحديقة العمومية الواقعة خلف بيتي، بهذه المدينة "الفلامانية" الصغيرة، التي أقطن بها بديار الغربة، طلبا لفسحة أمل للتأمل، في هذه السماء الرمضانية المباركة، التي تعلو رؤوسنا، لعلها تحقق لي أملا قديما، حملته في أعماق نفسي، منذ كنت طفلا في بلدي العربي، الذي هجرته منذ ما يقرب من عدة سنين قمرية. وحين وصلت إلى مدخل الحديقة التي كانت خالية إلا من وحشة الليل، قصدت مباشرة المقعد الحجري الواقع تحت ظلال الكستناءة العالية، والوارفة الأغصان، المحملة بثقل الخضرة الدكناء، ورغوة النجوم الفضية العالقة بها. وعبرت في وشح العتمة المبرقعة ببضعة هالات ضوئية، منعكسة عليها من هنا وهناك، واتخذت مكاني من المقعد المحكم الصمت، بندى برودته الليلية، فأحسست وأنا أحط بثقل ذاتي المتوهم، بأنني على استعدادا للسفر ببالي، إلى نهاية الدنيا. وكذلك كان، أن سرحت لذهني العنان، ورحت متفكرا بالرغم عني، فيما يحدث ببلداني العربية، الغالية على روحي. ورحت من هذا المكان القصي، من بلدان الغربة، الواقعة بشمال غرب أوربا، محاولا عبر بالي، أن أسلم على أحبابي الغاليين على قلبي، المتفرقين هنا وهناك، وأقصد بطنجة، وعمان، والرمثا، وحوفا، ومصراتة، وطرابلس، ودمشق، والرباط، والقاهرة، وتونس، وجدة، والجزائر، وتعز، وصنعاء، وغزة، وقلقيلية، ودرعا ...
رحت في حلم يقظتي، مسافرا عبر كل هذه الحدود الاصطناعية، التي تفصل بلداننا بعضها عن بعض، بل وتفصل فيها أيضا، بين الحبيب وحبيبته، بين الشقيق وشقيقته، والجار وجارته، والمواطن المدني وأخيه. وفجأة، أحسست وكأن المقعد الحجري قد اهتز، وتحرك على وقع ثقل جسم غريب ما، أجهله. والتفت جهة مصدر الحركة، القادمة عن يميني، وإذا بمخلوق غريب الهيأة، يتطلع إلي بعيون. أقصد، عيون تسحر لأول وهلة، ولأول نظرة، كل من وقعت في عيونه. عيون إذا صح التعبير السردي، لها سلطة قهرية. عيون اجتمعت فيها، إلى جانب هذه القدرة السلطوية، كل معاني القهر، والقمع، والاحتقار، والحقد.
- لا إله إلاّ الله ! قلت في نفسي !
واستدرت عن شمالي، لأتحقق من أن لا مخلوق آخر، قد تسلط بي، وحين لم أر أحدا، عدت بعيوني القلقة، نحو المخلوق الذي فاجأني، فوجدته ما زال يحدق في، بعيونه الحادة، فقلت له وقد بدا اضطراب المفاجأة يتسرب إلي:
- من أنت؟
ورماني بشرارة حادة، منبعثة من عيونه المتحدية، وقد أدرك ما أحدثه لدي أو كاد فيّ من اضطراب، ورد علي:
- برأيك من أكون؟
- هذا ما سألتك عنه وإلا ...
وأجابني مقاطعا:
- أنا من يزلزل البلدان، ويرعب أهاليها، ويذل أعزتها، وينزل بكرامتهم، إلى الدرك الأسفل، من العبودية والاستسلام.
ولم أكن قد تبينت سحنته بعد، بسبب دكنة العتمة من جهة، وبسبب هجوم عينيه المتسلطتين علي من أول نظرة، من جهة أخرى. وبدأت أميز في سطور سحنته، ملامح رجل شديد البأس، يتقاسم برودة الجلاد وتصلب المخابراتي. إلا أني بسبب بعد هذه التجارب الوجهية، التي كنت قد تركتها من ورائي، حين هجرتي، لبلدي العربي، قادما إلى هنا، لم أشعر لا بالانهزام، ولا بالاستسلام إلى حالة الخوف المخزنية. بل كنت مضطربا بفعل الحادث الغريب، وجد مرتاب من هذا المجهول، الذي تسلط علي، فقلت له من جديد:
- لعلك فارّ من سجن، أو مدمن مخدرات !
وقهقه في وجهي قهقهة، اهتز منها المكان، وسكينته ثم بكى حتى ابتل وجهه، من شدة انهيار دموعه، وقال لي:
- أنا "المقتول ..." يا أبا اليزيد !
- وكيف عرفت اسمي؟ قلت له.
- أنا المقتول، الذي لا جثة له، أقول لك !
واختلط علي الأمر، وأغمضت عيني مرارا وفتحتها، وفركتها لأتأكد من أن الأمر، مجرد حلم يقظة، وليس حقيقة. وإذا بالصوت الجهوري لهذا المخلوق، ما زال يزمجر، والمخلوق ما زال قاعدا بجانبي:
- هذيانك هذا يقلقني، ويضاعف من اضطرابي، ولكن لا يخيفني !
وصمت للحظة، ومن جديد حدق فيّ بعيون نارية، وقال لي:
- نعم قد أقلقك، وقد أبعث الاضطراب في نفسك، ولكن لم تعد لي قدرتي التخويفية لأخيفك، لقد صدقت بحدسك، وهذا بالذات ما كان السبب في قتلي.
- كيف تكون مقتولا، أي قد قتلت، وأنت هنا تحدثني، استسألته مستوضحا:
فأجابني، وقد بدأت تلك الرهبة في عينيه، تختفي وتتوارى، لتحل محلها، وداعة منبعثة من عيون مخلوق مهزوم.
- لو كنت حيا بالفعل، لكانت بلابلي قد طارت بك من هنا، من لما وقعت ألحاظي في عيونك لأول وهلة .. لو كنت حيا أرزق يا أبا اليزيد، لكنتَ قد فارقتَ هذه الدنيا من شدة وهول الذعر، الذي كان بإمكاني أن أبعثه فيك، وأزلزلك به، ولكني قتلت، نعم أنا قتيل .. أقول لك !
وهدأت أعصابي، وبدأ اضطرابي يستكين، وشعرت بسكينة ذهني تعود إلي. وأحسست بفضل الله وبركته، بقدرتي على مواجهة الموقف، ومتابعة الحوار، من موقف ند منتصر على خصمه. أي سيد رقعة الشطرنج، وسيد المعركة النفسية الدائرة رحاها، بيني والمخلوق الغريب، فقلت له مبادرا:
- هدِّأ من روعك، ودعنا نتحاور بأسلوب حضاري متمدن. هيّا قدم لي نفسك، وقل لي من تكون، بشكل واضح ومفصل، وصريح ! ومددت له يدي لأول مرة لمصافحته.
وكأن المعجزة القدرية قد حدثت، واستجابت أسباب السماء لندائي الداخلي، ومنحتني من الصبر والبركة، معيشة هذه الحادثة الإعجازية المدهشة، كمنحة سماوية، ونزلت علينا حكمة السرد الشهرزادية. وقبل أن يدركنا الفجر، أو الصباح، استرسلنا في حوارنا المباح، فقال لي:
- أنا يا أبا اليزيد، مخلوق خرافي، يقع ما بين الملائكة والشياطين. وبعبارة أدق، حسب ما طلبته مني، أنا مخلوق خرافي، من جنس وفصيلة العنقاء، والغول، والخل الوفي. أنا إن شئت يا مؤنسي، في هذه اللحظة التاريخية، التي سيكون لها ما بعدها، أقرب منّي إلى الفزّاعات الخرافية، مني إلى الواقع المادي المحسوس. والغريب في خلقتي، هو أنني أتواجد في الذهن وخفايا اللاشعور، أكثر مني في التجسيد والتصور البدني الفعلي، الذي تراني عليه الآن. والأعجب من هذا كله، وهو أنني من صنع وابتكار خالص للبشر.
- كيف ذاك؟ قلت له مقاطعا.
وأجابني وقد بدأت الطمأنينة، تسري تياراتها الخفية، فيما بيننا:
- لقد ساهم في خلق شخصيتي، قلة من الفراعين، للتحكم في باقي البشر. نعم لا تعجب يا مؤنسي ! قلة قد نقول عنها، من جنس البشر، التي تسمونهم بلغتكم الطغاة. فهؤلاء الطغاة، تنحدر جذورهم من سلالة "النمرود"، للتحكم في أبناء جلدتهم ظلما، بالقهر والاستعباد، والقمع والطغيان.
- وأنت ما دورك عند هؤلاء؟ قلت له متحيرا.
فأجابني مقطبا:
- قلت لك، بأننا نحن، أو أنا المتعدد الأوجه الخرافية، لست سوى اختلاقا خرافيا، مسخرا من قبل الطغاة، لخدمة مصالحهم الأنانية الشخصية، وشطحاتهم الإبليسية، وهياماتهم، واستيهاماتهم، وهذيانهم، كما جنون عظمتهم، وتأليههم لأنفسهم، باستعباد واستغلال شعوبهم المحيطة بهم.
- فأنت إذن ..
- نعم أنا "الخوف العربي ... بل للأسف الشديد ما كنته .."
- وكيف كان يتم ذاك؟ طلبت منه بإلحاح، مستزيدا قدر الإمكان، من الإيضاح.
وأجابني كمن يعود من حلم سعيد، إلى يقظة مرعبة:
- لقد كنت قناعا من وهم. نعم لقد كنت متمثلا، خرافة، في شخص الحاكم الطاغية. أفزع وأرهب كل من هم دوني درجة، وأقصد الجميع. وهكذا دواليك، كنت أنتقل بقناعي الفزّاعي الموهوم، من شخص لشخص، ومن رتبة لأخرى. فابن الحاكم، أي النجل، كان يُربّى مثلا، نموذجا طبقا لأصل أبيه. لاستخلافه، ووراثة عرشه، وتمديد زمن العبودية والإستغلال للأجيال اللاحقة. ورئيس الحكومة الذي يُقَبِّل يد مولاه، ويخر أمامه ساجدا، مغشيا عليه من الرعب ،كان بدوره، في غياب سيده، يمارس الإرهاب نفسه، على من هم دونه وظيفة. وهكذا لغاية العسكري ورجل الأمن. تصور أن شرطيا بسيطا، لا ثقافة له، ولا دين، ولا ملة، يتسلط بخوفي الوهمي، على المواطن، العبد الضعيف، ويمارس عليه، كل الإهانات، المذلات الممكنة، باسم الأمن، وحفظ نظام الطاغية.
- النظام؟ قلت له مقاطعا.
- نعم، نظام التخويف، والتفزيع الطّاغوتي.
- والآن، ماذا تغير؟
- ماذا تغير ! تغير كل شيء ...
- منذ متى؟
- منذ أن أطلق عليّ شهيدُكُم البوعزيزي، رصاصة الرحمة.
وتوقف عن الكلام، مسترجعا أنفاسه المنحبسة في رئتيه المتشنجتين، فاغتنمت الفرصة لاستفساره:
- لم أفهم قصدك بالتحديد؟
- لقد قتل بياعكم البوعزيزي، وجه الخرافة المفزعة فيّ، وأسقط الأقنعة الموهومة من على وجهي الإرهابي. ومن يومها، أدرك المواطن العربي البسيط، بأن قدر الخوف الذي كان جاثما على كرامة إنسانه، ليس سوى فكرة. ليس إلا أخروفة مبتكرة، لاحتقراه، وإذلاله، واستغلاله، وليس حقيقة، لا واقعية، ولا تاريخية. فالمواطن العربي اليوم، أصبح يقول في نفسه " فلأَمُتْ الآن إذن، في سبيل الحرية والكرامة، ما المانع من التضحية، طالما أني سأموت ذات يوم، كعبد. فلأموتَنّ اليوم، إذا كان ثمن موتي، يحرر من العبودية، ألافا مؤلفة، من المواطنين أمثالي". وهذه حالة رجل واحد، فماذا بك، حين تتحرك العامة عن بكرة أبيها، لتتبنى الفكرة الإستشهادية نفسها. وهذا ما حصل بالفعل. لقد استهدفني بطلكم البوعزيزي، فأصاب مقتلي، ولم يعد من يومها لقدرتي الفزّاعية، التي كانت جاثمة على الوطن العربي، من دور، فلم يعد ثمة أحد يرهبني ويخشاني.
- وكيف؟
- تصور أن مغربيا بسيطا اليوم، من البياعين المتجولين، يتربع في وسط الطريق، ويعرض بضاعته للملأ، غير متخوف من شيء. وإذا حصل ووقف عليه أحد رجال الأمن، فإنه لا يفر ولا يستسلم، بل يشير إلى نفسه، وإلى فتيلة زجاجة الغاز الموضوعة جنبه، ثم يسحب عود ثقاب قائلا " إما وإما .. !" وهذا نفسه، ما أصبح جاريا به العمل، في مصر، واليمن، وليبيا، والعراق، بل وحتى في سوريا، التي كانت أجهزتها الأمنية، "ترهب خوفا، وتقلق بال، حتى الموتى..." حسب ما كان يحكى. وقس على هذا الموقف، أو المشهد إن أحببت، بقية البلدان العربية، التي يعتقد بعض طغاتها، بأنهم قد جنبوا إعصار هذه الثورة العارمة.
وانفجر بالبكاء، وتتابعت أنفاسه، متقطعة بشهيق عميق، ولم أزعجه، بل تركته حتى أفرغ ماء خرافته، وعاد إلى صوابه، حينها فقط، تجرأت على العودة إلى محاورته، فقلت له:
- فما العمل إذن، ذا كانت الحالة كما وصفت !
- العمل !؟
- أقصد، ماذا بإمكاني أن أقدمه لك من خدمة، وقد صرت غريبا مثلي بهذه الديار؟
وكالغائب في سكرة الموت، الذي يعود فجأة، للحظة الأخيرة من غيبوبته، للتلفظ بكلمته الأخيرة، قبل السفر الدنيوي النهائي، فتح عيونا كبيرة في وجهي، ولكن خالية تماما من ذاك الرعب، الذي كان يسكنها من قبل، وقال لي:
- طلبي الأخير إذا أمكن يا أبا اليزيد، بل أمنيتي ووصيتي الوحيدة، أن تبني لي بكتابتك، وخيالك القصصي، أنت من يحترف هذا الفن السردي، قبرا وهميا، وتنقش على شاهدته بأحرف ذهبية " هنا يرقد الموت العربي"
وما كاد يتم جملته، التي ظلت رنات أحرفها عالقة بذاكرتي، حتى تبخر المخلوق، ووجدتني وجها لوجه، مع وحدتي الليلة، فتمثلت قائلا، من وحي ذاكرة المعلقات:
ولَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرِ أرْخى سُدولَهُ
عَلَيَّ بِاَنْواعِ الهُمومِ لِيَبْتَلي
وعدت أدراجي، منمحيا شيئا فشيئا، في ثنايا معطف الظلام.
-انتهت-